حكايات أبو زيد الهلالي فارس بني الزحلان

يحكيها : سمير عبد الباقي
دار الحسام
ترسمها :سحر موسي
قال الراوى
صلوا على الرسول خير الأنام .. الي بذكره يحلو الكلام .. ويفتح لنا باب القبول ويكتب لنا القبول قولوا معي يا سادة ياكرام . سبحان من له الدوام .. من ضربلنا الأمثال بالأقوال وبالأفعال .. وجعل التاريخ وحكايات الأبطال عبرة لبني الأنسان ، وعلمنا أن نستعيد ما كان .. كي نستفيد من صراع الخير مع الشر ، والقديم مع الجديد .. لنستعد بعقل سليم وعزم شديد لمستقبل الأيام .. ونحقق الآمال والأحلام .. نبني للأطفال العالم السعيد .. لذلك ياسادة ياكرام سنحكي ونعيد حكايات فارس الفرسان ، ومغامرات بطل الأبطال (بركات – سلامة الهلالي – أبو زيد!!)

معركة لاتسيل فيها الدماء

كانت الأرض المنبسطة تبدو كساحة قتال عنيف لايهدأ ، وغن كان قتالا بلا ضحايا ، لا تسيل فيه الدماء .. كان الشباب مع أبناء قبيلة الزحلان يتدربون علي فنون القتال ، تحت إشراف معلمهم الفقيه العجوز بن الخطيب الذي كان يدور كالنحلة بينهم ، ملقيا بتعليماته ، منبها أحدهم لخطأ قاتل أو يعدل وضع رمح في يد آخر ، أو معترضا علي طريقة ثالث في الأشتباك ..
وكان صوته المشروخ المثير للضحك هو الصوت البشرى الوحيد الذي يرتفع وسط صليل السيوف وطقطقة الرماح وإحتكاك وإحتكاك العضلات بالعضلات أو إرتطام القضبات بالرءوس أو إصطدام الأجساد بالصخور والأرض الصلبه.
في السماء كانت الطيور الجارحة تحوم في صمت وقد خدعتها الأصوات والآهات ، فظنت أنها معركة بعدها وليمة من الضحايا .. فمضت تدور في سماء الساحة في تربص وجشع ، دون ان تعلم أن تلك ساحة تدريب ، لاتخلف أشلاء ولا تسيل فيها الدماء.
مضت ساعات وأبناء قبيلة الزحلان لا يتعبون ، إذ كانوا يعرفون أن مكانة قبيلتهم وسط القبائل ، في تلك الصحراء القاسية ، رمهون بإتقانهم فنون القتال ، وكان لديهم أحساس غير قليل بلعار لآن أضطر منذ سنوات ، أن يقبل مرغما دفع نسبة فادحة من أموالهم وأنعامهم ، الي عدوهم اللدود أبو الجود بعد أن هزمهم وأجبرهم علي إلتزام حدود وادي الدقائق ووادي النسور ، تاركين الأرض الخصبة ، مكتفين بالأرض البور.
كان أبناء الزحلان يدركون قيمة ما يمتلكه ذلك العجوز الماكر ، الذي يتولى تدريبهم ، ويعرفون أن حريتهم مرهونة بان يستوعبوا ما لديه من علوم وخبرة .. في فنون القتال ... لذلك كانوا يطيعونه ويحبونه ، وإن يخل الأمر تماما من محاولتهم السخرية من طريقته في نطق الحروف ، خاصة عندما يغضب ، فكانوا يقومون بتقليده في أسمارهم ، خفيه عنه طبعا .. لآن أقواهم ما كان يصمد أمامه لحظة ، رغم كبر سنه وضآلة حجمه إن أراد أن يعاقبه ، أو يلقنه .
قال الراوي ....
وحده بركات .... كان يستطيع ذلك ..
تري هل كان ذلك لأن بركات الذكي الماهر كان أخف حركة منه ن ويستطيع تفادي حركاته الماكرة ويتوقعها قبل أن توقع به ، بطريقة يبدو معها التلميذ ، أكثر من أستاذه مهارة .. أو ند له حين يتصدي له بجداره ..
أم لأن أبن الخطيب كان يتسامح معه ، لنه أحب أبناء الملك الزحلان لأبيهم .... أم لأنه يحبه بالفعل ويجد فيه تلميذه النجيب ، لذكائه الشديد ورأيه السديد وقدرته علي أستخدام عقله ، بنفس القدرة علي أستخدام عضلاته وسيفه الحديد ..
إكتسب بركات هذه المكانة في قلب معلمه منذ أحضره إليه الملك الزحلان ليتولي تدريبه وتعليمه منذ أكثر من خمس سنوات وكان صبيا مايزال . يومها تعجب الفقيه قليلا لأنه لم يسمع بإسمه من قبل كأحد أبناء الملك .. لكنه حين حاول أن يسأل عن ذلك ، نهره الملك بشدة قائلا أن هذا الأمر سر شخصي للملك وحده .. فإبتلع المعلم لسانه ، وطوى الشك في قلبه ، وتعامل مع بركات علي أنه أحب أبناء الملك اليه دون أسئلة ...
كان للملك الزحلان ولدان آخران ، هما منعم ونعيم يتعلمان فنون الحرب ، ويتدربان علي القتال ، مع أخيهما بركات .. وذات يوم ، أراد الشيخ أن يعاقبهما بالجلد لخطأ جسيم أرتكباه ..
لكن بركات أشفق عليهما .. وتحمل الضرب بالسوط عنهما ، دون آهة ألم واحدة .. مما زاد إعجاب معلمه به ، وزاده قربا منه ، حتي صار يعهد عليه بمتابعة تدريب أقرانه، حين يغيب لشأن من شئونه .
وزاد الأمر بينهما توثقا ، بذلك الإتفاق الطريف الذي عقده بركات معه ، يوم ساومه في مرح :
- دينار ذهبي كل يوم .. في مقابل أن تعلمني لسان الفرس والترك والأكراد .. ولهجة البربر ولغة الطليان ...
- دينار ذهبي ؟!
- ذهبي !!
- كل يوم ؟!
- كل صباح .. وأيضا تلقنني أسرار الصباغة والصناعة وعلوم الكمياء .
دهش أبن الخطيب وقال :
- وكيف تستطيع أن تستوعب كل هذا ؟ ...... وأنت تتدرب علي فنون القتال والحرب ؟.....
ضحك بركات وقال ....
- هذا شأني يا صاح ، ودينار ذهبي لك كل صباح ..
وقبل الشيخ الأتفاق في البداية علي سبيل الفكاهة ، كان يتصور أن بركات سوف ينسي بعد قترة تلك العلوم الصعبة ، وسيمل منها ،وينشغل كغيره من الشباب في اللهو واللعب ، والطعام والشراب بدلا من إرهاق عيونه بالورق والكتاب ...
لكن بركات لم يغفل ، وظل علي مثابرته في إستيعاب فنون الضرب والحرب والفروسية ، بقدر إندماجه في دراسة الكمياء والصباغة واللغات الأجنبية ...
وكان كل يوم الرجل يضع الدينار الذهبي في كيس خاص يزداد بمرور الأيام إمتلاء في الوقت الذي يزداد معه حبه لبركات ، الذي كان يزداد كل يوم شجاعة وذكاء.
اخر الدنانير
- بركات .... بركات ... أدركنا يا بركات .. رددت الجبال المحيطة بالوادي صرخة الرجل ، الذي جاء منطلقا فوق حصانه ، مخترقا ساحة التدريب ... توقف اللعب فجأة حتي أن بركات نسي أن ينزل الرجل الذي كان يصارعه ، وظل يرفعه فوق رأسه لفترة قبل أن يلقي به وهو يحدق في القادم الصارخ .. وإقترب منه الشيخ ابن الخطيب مستطلعا الأمر ، حتي وصل الرجل ، فنزل من فوق حصانه .. وإندفع نحو بركات ....
- أسرع يابركات .. لقد فاض الكيل بأبيك الملك ..
- ماذا حدث ؟
- تمادي أبو الجو يابركات ، وتعدي حدود الأدب
- هل هاجم مضاربنا ..؟!
- ياليته فعل .. ولكن الدهي من ذلك ، أنه تعمد إهانة ملكنا والأساءة إليه !
- بكي الرجل وهو يقول فأخذ بركات يربت علي ظهره مهدئا ...
- إهدأ .. وإحك ما حدث .. دون زيادة ..!
- لقد أرسل أبو الجود عبدا حقيرا من رعاة الغنم برسالة لأبيك ، ينذره بدفع ما قرره علينا من أموال في الحال .. وإلا دمر مضاربنا وأحرقها .
إبتسم بركات ليخفي غيظه وإنفعاله .
- لكن موعد الدفع لم يحن بعد ، فماذا وراء هذه العجلة ...؟!
- إن لهجة الخطاب المهينة أصابت والدك بأزمة ، حتي خشينا عليه .. وأظن أن أبا الجود يقصد هذا تماما .. لذا تعمد تجاوز حدود الأدب ...
لم يجب بركات ولم يعلق ، وإنما أسرع وقفز ممتطيا حصانه دون سرج ، وأرخي لجامه فإنطلق به . أشار ابن الخطيب اشارة أنهي بها التدريب ن وإندفع الرجال علي أثرها يمتطون جيادهم وينطلقون في أثر بركات ، مثيرين عاصفة من الغبار ، أهيجت الطيور الجوارح مرة أخري فمضت تحوم صارخة في سماء الوادي ...
بينما عاد ابن الخطيب نحو كهفه المنحوت بين الصخور .. مد يده ، تناول الكيس الذي يحتفظ فيه بدنانير بركات الذهبية .. فتحه في هدوء .. وأسقط دينار اليوم مع أشقائه وتمتم وهو يغلق الكيس ن ويعيده لمكانه ...
- أنا متأكد انك ستكون أخر دينار يدفعه لي بركات ... فقد نضج الأن ، وصار مؤهلا ليتصرف تصرف الفرسان .. وصار يمتلك من الشجاعة والقوة ما يكفي ، لكي يدله قلبه الكبير وعقله الراجح ... علي الفعل الصحيح لفارس نبيل ...!
عفوك ياملك زحلان
قال الراوي ...
وصل بركات الي مضارب الزحلان فقفز من علي حصانه وانطلق الي داخل خيمة الملك مزيحا من يقابله من الحراس وهو يزمجر غاضبا ..
وما أن رأي المنظر الذي أمامه حتي أنفجر غضبه في آهة زلزلت أركان المكان .. كان الملك زحلان جالسا ينتفض من الغم والكمد وحوله رجال المقربين عاجزين لايجرؤن علي الكلامبينما يقف أمامهم وسط الخيمة عبد يرتدي ثيابا رثه معجبا بنفسه كطاووس أنساه غروره ما كان يجب أن يكون عليه من أدب في حضرة الملك زحلان ..
أمسك بركات بخناقه حتي كادت تختنق أنفاسه ورفعه بيد واحدة ... وصاح في وجهه ...
- هل أمرك سيدك اللعين أن تتطاول في حضرة أسيادك ايها الوغد اللعين وأن تتجاوز حدود الأدب ؟
ثم ألقي به في آخر الخيمة كبعض النفاية ... واندفع وتناول الخطاب من يد والده المرتعشة .. فلما قرأه أزداد غضبه وبرقت عيناه تطلقان شرر لبغضب ، وأسرع مكشرا عن أسنانه نحو العبد حتي ظن الواقفون إنه سوف ينهش لحمه .. ولكنه رفعه من قفاه وأخرج سيفه القصير فانطلقت آهة فزع من فم العبد المسكين .. وقام بركات بحلق فروة رأسه ... ثم مزق الرسالة بنفس السيف .. وخلط الشعر بباقيا الرسالة وحشاها تحت صديريته وهو يزمجر ...
- لولا أني أحتاج لندل مثلك كي يوصل رسالتي لأبى الجود ..لمزقتك أربا أربا ... هيا ... وقل لسيدك الجبان .. هذا هو رد الملك الزحلان ... وقل له أن نفس السيف في أنتظاره لا ليقطع شعره .. بل لجز لسانه ورقبته .. قل له يا أبا الجود لقد أرتكبت خطأ ستدفع ثمنه غاليا .
ثم حمله بقبضة يده مرة أخري حتي أجلسه مقلوبا علي ظهر حصانه ... ووكز الحصان وكزه جعلته ينطلق حرونا بالبعد المقلوب وسط ضحكة فرسان بني الزحلان الذين كانوا قد لحقوا به ليشهدوا المنظر الأخير ويهتفوا إعجابا به ..
قام الملك زحلان وقد عادت الروح تدب في أوصاله . وأحتضن بركات في حب وقال له :
- يابركات يا ولدي .. لقد أعدت الدماء الي عروقي .. الآن أطمئن لقدرة بني الزحلان علي الوقوف أمام جبروت أبي الجود .. ورد مظالمه التي طال إحتمالنا لها .
وابتدأ بركات في تجهيز الجيش .. والإستعداد للخروج لملاقاة ابي الجود الذي لابد انه سيستشيط غضبا عندما يصل اليه العبد المقلوب فوق الفرس محلوق الرأس ليسلمه الرسالة الممزقة ...
مقتل الوزير عجير
غضب أبو الجود غضبا شديدا وأمر بدق طبول الحرب للأنتقام من الزحلان وتأديب ملكها .. لكن الوزير ( عجير ) وزير أبي الجود سأل الهبد راشد عمن فعل به هذا .. ومن الذي حمله تلك الرسالة المهينة .. فقال العبد راشد ؟
- لم يكن الملك زحلان يامولاي ولكن عبد اسود من عبيده أسمه بركات .
فإزدادا عضب أبي الجود وهب قائما ليقود الجيش ولكن الوزير اصر علي الخروج بدلا منه ... لإحضار ذلك العبد الأثيم لتأديبه .. إذ لا يليق به أن يخرج ليطارد عبدا كبركات ... ووافق أبي الجود وسمح لوزيره بالخروج في عشرة آلاف مقاتل ، لأسر ذلك العبد وإحضاره حيا ، ليشفي غليله ....
قال الراوي ....
إلتقي الجيشان في احد الوديان ، وأندفع كل منهما نحو الأخر اندفاع العاصفة ... وأشتبك الرجال بالرجال ... والتحم الفرسان بالفرسان ... ونادي الوزير علي بركات أن يبرز اليه ....
فوجده يبحث عنه ... واصطدم الرجلان كالجبلين .. كان الوزير مقاتلا قديرا ومبارزا خطيرا ... فانقض علي بركات في شجاعة ، وجذبه جذبه كادت تخلعه من فوق فرسه ، لولا مهارة بركات وقدرته علي الصمود ... فأرتمي فيمرونه إلي جانب سرجه وتفادي حربة الوزير مباشرة فأخترقت جسده وهو يصيح صيحة شلت حركة الخيل والفرسان ... ووقفوا يشاهدون جسد الوزير وهو ينهار مرتطما بالصخور والأحجار .. في منظر رهيب ، أثار فزع رجاله فولوا الأدبار.... بينما تصاعدت صيحات رجال الزحلان ، فرحين مهللين بالأنتصار...
وحين وصل الخبر الي أبي الجود ركبه الهم والغم ... وخاصة عندما عرف أن العبد بركات ال>ي مزق رسالته ، هو ال>ي قتل وزيره ... فصاح صيحة الحرب .
وقال :
- لم يعد لك مني يابركات مني مفر .. ولن يكون للزحلان بعد اليوم أرض ولا مستقر .....
رب أبن لك ليس من صلبك
قال الراوي ....
طلب بركات من ملك زحلان أن يبقي في المضارب وسيكفيه هو عناء القتال ولكن الملك رفض وجمع أبناؤه منعم ونعيم وأشقاء زوجته جابر وجبير وأمرهم بإللحاق ببركات ، وهو يقول لنفسه
- عشت معي يا بركات كل هذه السنين كابن لي ، بل أصبحت أعز أبنائي الي ... وأثبت لي صحة ذلك المثل الذي يقول ( رب إبن لك ليس من صلبك ...)
ولكن ن لا يجب ان تذهب للحرب دفاعا عن الأرض بدلا من أصحابها ... ليس من العدل ان تضحي أنت ، بينما أجلس أنا وأبنائي في عقر ديارنا ننتظر ... لا سنسير معك .. فمصيرنا مشترك ..
وقاد بركات الجيش حتي التقي بجيش أبي الجود .. الي الشمال من وادي النسور وهناك تقدم وصاح بأبي الجود :
- كفاك ما أرتكبت من حماقات وإهانات .. فلنلحق دماء الرجال والجنود مادمت قد جئت لتاديبي ، فأخرج إلي ... تقدم ... وليحكم بيننا السيف ...
برز أبو الجود وصاح به :
- لن ألوث حربتي بدماء عبد نجس مثلك .. عد الي حظائر الغنم ياكلب العرب ، وأرسل سيدك ليقاتل بنفسه ، إن لم يكن قد قتله الخوف ... لن أقاتل عبدا مثلك ...
ضحك بركات وصاح به :
- أنني عبد بقدر ما أنت عبد لغرورك ... لست عبدا يا ملك .. إنما أنا بركات إبن الملك زحلان وكفاك تهربا من الحقيقة ، التي تقول أنك تكاد تنهار من الخوف ...
غضب أبو الجود لقوله ، وأندفع نحوه صائحا ، شاهرا سيفه ، وتطاير الشرر عندما التقي السيفان ، فإرتفع لهما صليل رهيب ، أفزع الخيل والعقبان .. وظل الفاريان يتبادلان الضرب والطعان ،حتي حل الظلام ففرق بينهما ....
وما أن أشرقت شمس الصباح حتي عاد الي ساحة المعركة ، وقد تجدد نشاطهما وظلا يلتحمان ويفترقان ، حتي بلغت الشمس كبد السماء وأشتدت الحراره ولمعت السيوف ، وأستبدل الفارسان أسلحتهما أكثر من مرة وأستعملا السيوف والحراب والخناجر ... وأشتبكا معا يدا بيد ، وذراعا بذراع أكثر من مره ... ثم عاد الي الخيل مرة بعد مرة وتعالت صيحاتهما مختلطة بصهيل الخيل وصيحات الطير ، وزعقات الرجال وشهقاتهم فزعا وفرحا أو غضبا ، وفجأة ، وفي إشتباك عنيف أثار سحابة من الغبار أنطلقت صيحة ألم عميقة مخطلتة بصرخة غضب أعلي ، مما حير الجميع وأنتظروا انكشاف الغبار ليعرفوا ما جري .... ولما أنكشف الغبار ، كان بركات فوق فرسه التي رفعت قوائمها تصهل صهلة النصر بينما كان أبو الجود علي الأرض مضرجا في دمائه .. سكن الوادي للحظات ثم أنطلقت صيحات النصر من معسكر الزحلان ... وهنا صاح بركات مخاطبا رجال أبي الجود :
- أيها الرجال الشجعان .. لم نكن نريد هذه الحرب .. لكن أبو الجود اعماه الطمع .. فلم يعد يعرف قدر الرجال ، ولاقيمة الأبطال .. أعماه المال ، فأرسل يهين الملك الزحلان .. ولكنه نال جزاؤه ... فهل لكم ان تسمعوا لصوت العقل .. وأن نكف عن القتل ..
وشقت كلمات بركات صفوف جيش أبي الجود ... وثار بينهم جدل شديد . أنضم علي أُثره فطاردوهم منعم ونعيم إبنا الزحلان ، حتي أضطروهم الي الفرار ..
قال الراوي ....
امر بركات رجاله بدفن الموتي وعلاج الجرحي ... وتقدم الملك الزحلان من بركات واحتضنه مهنئا بإنتصاره ونادي في رجاله قائلا :
- يا أبنائي .. لقد عوضني الله في شيخوختي بهذا الأين البطل .. لذلك أطلب منكم ... الألتزام بطاعته ، ولأنه سيكون أميركم بعدي .... وأندفع نعيم ومنعم يعانقان أخاهما ... بينما ظل جابر وجبير شقيقي زوجة الزحلان ، مترددين والتفت جابر هامسا لجبير ...
- هل صدق الزحلان نفسه وأعتبر بركات ابنا من صلبه ، ليوليه إمارتنا . وأنا بنفسي أستقبلته طفلا مع أمه عندما لجأت به الينا وأوصلتهما اليه ...
لكن جابر سارع يقول له ...
- إنس هذا الأمر الأن ولا تفسد أنتصارنا ... إنه هو الذي قتل أبا الجود .. وخلصنا من شره . إبتلع جبير رفضه ، وأندفع مع الجميع يعانق بركات ويهنئه ويقسم علي طاعته كما أمر الملك الزحلان.
قال الراوي ....
ولم يكن هناك ياسادة ياكرام .. أسعد ولا أهنا بالا من أم البطل الهمام بركات الست خضرة الشريفة التي كانت قد وصلتها الأخبار ..... فرقص قلبها فرحا بإنتصاره وراحت تراقب مظاهر الفرح بالأنتصار والي جوارها وقف الفقيه إبن الخطيب بعد أن سلم لها كيس الدناينر الذهبية .....
وهو يقول ضاحكا :
- لم أكن استطيع أن أرفض له طلبا ياسيدتي خضرة ، كان مصرا علي أن يكافئني ، وأن يدفع أجري .. وطاوعته ولم أفش سره لآحد . وظللت أضع الدينار فوق الدينار ، ليكون هديتي له يوم آراه وقد أكتمل له العلم مع الشجاعة .. فاعطها له ياسيدتي هو سيلقيها منك عني .. إنها نبوئتي وبشراي له بمزيد من الزيادة والنصر حتي يعرف اهله وقدره .... وحين تطبق شهرته الآفاق فليذكر الجميع إنني كنت معلم بركات أبو زيد وهبته علمي وخبرتي وهما لايقدران بثمن.

حكايات أبو زيد الهلالي 2 عين قطف الزهور

عين قطف الزهور
كانت خضرا الشريفة واقفة تودع في قلق ولدها بركات ، الذي كان مع أخويه ، منعم ونعيم ومجموعة من أًصدقائهم يجهزون جيادهم في مرح وصخب .. إستعدادا للصيد .. فقال لها الملك زحلان :
- لاتقلقي ياابنة الشريف ، فإبنك الذي قتل أبا الجود وخلص الدنيا من شره ، لاتهزمه السباع ، أدخلي ولاتخافي عليه ...
قالت خضرا ضاحكة :
- أنا أخاف عليهم جميعا يا سيدي ، فلهم جميعا في قلبي نفس المكانة ، إنني أستنشق بعض الهواء ...
لكنها ظلت واقفة تراقبهم حتي أختفوا مع انحناءة الطريق ،
إبتسم الملك إبتسامة العارف أن قلبها أصبح مشغولا علي إبنها أكثر ، منذ أعلن إنه الأمير من بعده ، وولي عهده ، لأنها كانت تعرف أن جابر وجبير إبني شقيقته لايوافقان علي ذلك ، إلا خوفا من من مخالفته ، واحتراما لإرادته . وكان يعرف أن معهما الحق فملك بني زحلان من حق منعم أو نعيم ابني الملك الحقيقين ، لأن بركات مجرد ضيف وغريب وأمه تشفق عليه من اليوم ال>ي ينكشف فيه السر ويعرف حقيقة نسبه !.
همس زحلان لنفسه :
- يا للأمهات .. أصبح إبنها فارسا وأميرا ومازالت تراه الطفل الصغير ال>ي جاءت لنا تحمله ، بلا حول ولا قوة ، ( كفاك قلقا يا خضرة . فله في قلبي معزة تفوق معزتي لآولادي...) فجأة
فجأة ..
قطع عليه أفكاره ضجيج وصياح استغاثة وفزع ، فأسرع حراسه يستطلعون الأمر ، فرأوا عددا كبيرا من الرعيان ، يسوقون أمامهم القطعان ، وهم يصيحون رعبا.
- أدركنا ياملك زحلان . كنا .. بنو هلال داهمونا وانقضوا علينا كالذئاب والنسور وطردونا من مراعينا واستولوا علي اراضينا حول عين قطف الزهور . الغوث .. الغوث ..!
- ولم ينتظر الملك وصول بركات ، بل أمر أن يدق طبل الحرب لتأديب بني هلال وطردهم . وخرج علي رأس جيشه ، فوجد بني هلال يقيمون خيامهم كأنهم ينوون الأستقرار في المكان الي الأبد ،
- ف صاح فيهم
- يا بني هلال .. تعرفون أنني ملك هذه البلاد ، وهذه الأرض أرضنا ، والمراعي لنا ، فأرحلوا في سلام ،وعودوا من حيث أتيم ه>ا خير لكم إن كنتم تعقلون ..!
إرتفعت صيحات السخرية والغضب من بني هلال .. وأسرع فرسانهم الي اسلحتهم ، ثم تقدم اليه فارس مهيب شاهرا سيفه وقال :
- القحط أصاب بلادنا يا ملك الزحلان ، وقضي علي الأخضر واليابس ، وقد أتينا نطلب رضاكم والسماح بأن نحيا فوق ه>ه البطاح .. وسوف ندفع لكم العشر من إنتاج أراضينا وخير مراعينا وه>ا فضل وعدل يا ملك .
وأثارت طريقة الأمير رزق الهلالي في الكلام ضحكات ساخرة بين صفوف بني هلال فأشتد غضب ملك الزحلان فقال :
- أهكذا يا أمير ؟ وبلا إستئذان ؟! تقتحمون الوديان وتطردون الرعيان ، ثن تتحدث عن الرضا والسماح .. عد من حيث أتيت يارزق وإلا فليس بيننا سوي السلاح!
وأندفع الأثنين كلا نحو الأخر كالعاصفة ، وعلا بينهما الغبار وثار ، وظلا يتبادلان الضرب والطعن حتي أنتصف النهار ، فخرجت منها ضربتان في نفس الوقت ، أما ضربة الزحلان فقد أبطلها الأمير رزق بدرعه الحديد ، أما ضربة الأمير رزق ، فنزلت فوق فخذ الزحلان فجرحتها جرحا بليغا ، ثم هبطت فوق عنق الحصان فقطعتها .
فأسرع اليه رجال يحيطون به ، حتي أستطاعون أن يأخ>وه بعيدا عن رزق لعلاج جرحه .. وأشتعل وطيس المعركة بين الجيش.
وبينما كان الرجال يحملون الملك الي خيمته وصل بركات ، فأرتمي علي صدر الملك ، متعذرا له ،يتأسف لمصابه ، وقد أشتد غضبه وحزنه .. ثم أندفع هو وأخوته كالعاصفة ، يصيحون صيحات القتال للأنتقام من بني هلال .
غانم الزغبى
قال الراوى:
كان بركات يحس بالذنب لأنه خرج للصيد وترك والده يتعرض للموت ، كانت عروقه تنفض من الغضب علي بني هلال الذين لم يعد لهم عهد ولا ذمة ، منذ أصاب أرضهم القحط وحلت بهم الغمة . وصاروا في الصحراء فلولا ضائعة ، يهاجمون القريب والبعيد كالضباع الجائعة.
وكان قلبه يمتلئ بالغيظ أكثر .. لأنهم تجرأوا علي مهاجمة بني زحلان الين تناقل خبر أنتصارهم علي أبي الجود الركبان فذاع صيتهم في الصحاري والوديان .. وخافتهم القبائل في كل مكان .
وعندما وصل بركات ومن معه الي ارض المعركة ، صاح صيحة أرتجف لها الجبال وتزلزلت من مكانها الصخور ، فوقع حجر في حجم العصفور علي رأس رزق الجسور ، فأثار قلقه وجعله يقف مترددا لا يجيب علي نداء القتال ، فأعطي ه>ا الفرصة لكي يتقدم غانم الرغبي ويبرز للميدان لمواجهة بركات ...
صاح بركات في غضب ، وعيناه يتطاير منها شرر كالهب :
- من أنت أيها الدخيل ،إرجع وإنقذ نفسك وارسل رزق الدريدي لآمزقه بيدي ..
كذب غانم عليه وقال :
- رزق ذهب للصيد يابركات ... مثلما كنت أنت تلهو في الفلوات .. هيا يا صغير السن يا جهول .. لتري كيف يصول الزغبي ويجول ..
إلتحم الفارسان في ضجة ودمدمة ثم إفترقا بعد جهد وعناء ... ليظهر غانم مجروحا مضرجا بالدماء .. وبركات يسخر منه وهو و يعفو عنه قائلا :
- أسرع ياطويل اللسان ، وداوي جراحك بعيدا عن الميدان ، هيا فقد نات منا السماح .. قال وصاح :
- هل من مبارز منكم يا بني هلال .. هل من رجال تخرج للقتال .. ام تفضلون إنتظار الضيوف .. ليحملوا عنكم السيوف ..
خرج اليه الأمير عمار ، فعاجلعه ضربه كان فيها الدمار ..
فإندفع اليه القضي بدير فجرحه جرحا بليغا جعله يطلب العفو منه فعفا ، ليعود مسود الوجه والقفا ..
كل ه>ا .. ورزق مستمر كحجر يتأمل بركات وفعاله ، وهو يود لو يخرج لقتاله .. لكن شيئا كان يشق قلبه يهمس اليه ألا يفعل .. والناس تتعجب من رزق لأنه يسرع ولا يتعجل وظل الفرسان يخرجون واحد بعد الأخر لبركات من كل الجهات ، فيصرعهم أو يجرحهم .. أو ياسرهم ، حتي زاد ععدهم عن التسعين ما بين قتيل وأسير وجريح وطعين .. كل ه>ا ورزق ما يزال في مكانه يراقب .. وكأنه عن الوجوه غائب ..
فقرر الأمير سرحان أن يخرج لبركات بنفسه ، فلما تقدم اليه ، حمل بركات عليه .. وطعنه بالرمح طعنه اصابت إحدي رجليه فعاد مهزوما يعرج ويجر قدميه ..
انتفض رزق غاضبا من نفسه ، وأسرع يمتطي فرسه .. وسط صيحات الرضا من الجميع .. فقد كان وحده الكفيل بإيقاف بركات عند حده .. وأن يرسله الي لحده ..!
والتحم رزق وبركات تلاحم الأنداد الأبطال ن واصطدما إصطدام الجبال بالجبال.. فتبادلا الضرب والطعان .. تاره فوق الخيل ، وتاره فوق الرمال .. وطارد إحداهما الأخر بين الصخور قافزين صارخين كالنمور .. يتبادلان الأوضاع والأمكنه ، مستخدمان كل الحيل والفنون الممكنة وغير الممكنة ، حتي تعب رزق وسال منه العرق كالبحر . وكل بركات .. وكاد أن يفقد سيطرته علي الأمر .. لولا أ، ٍ.ٌ أقترح عليه أن يستريحا ، فأشفق بركات عليه ، خاصة حين نظر في عينيه ن فأحس شيئا غامضا يقربه إليه ..!!
وانهمك كل منهما في إصلاح حاله .. وقد أنشغل باله ، متأملا في قوة غريمه وأفعاله .. وكان الرجال من الجانبين يتأمل البطلين .. صامتين كأن علي رؤوسهم الطير ..
وفجأه ..
صاحت إمراه شابة ، من بين صفوف بني هلال في خوف وفزع مح>ره بركات
- أحترس يابركات .. إحترس ..
وفي لمح البصر ، قفز بركات مبتعدا من فوره .. متفاديا ضربة حربه ن طانت تستهدف طعن ظهره ..
ساد صمت رهيب ثم أندفع الفارسان في ضراوة يستأنفان القتال ، حتي جرح رزق جرحا بليغا اسقطه علي الرمال .. وتقدم بركات الغاضب يريد قطع رقبته ، فصاح به نفس الصوت ال>ي ح>ره من حربته :
- لا يابركات .. لاتقتله وكن كريما وإجعله اسير عطفك ، وعتيق سيفك .. فهذا أكرم لك وله يابركات !..
لم يكن رزق قد صدق إذنيه حين سمع ذلك الصوت في المرة الأولي .. لكنه وهو ملقي علي الأرض في صمت ، ينتظر حد السيف والموت ، تأكد تماما أنه صوت إبنته شيحا ..
فتمني أن يقتله بركات علي الفور هربا من ه>ه الفضيحة ! ..
لكن بركات أغمد سيفه في جرابه ولم يفعل .. واستجاب لصوت الفتاة الطيب ال>ي هز قلبه حين رجاه .. أن يتراجع عن قتل رزق ويهبه الحياه ..!
عاد رزق الي معسكره مهانا ، لأنه عبدا كبركات وهبه الحياه فصار عتيق سيفه .. وهذا عار عليه ودليل علي مذلته وضعفه .. ومن التي كانت السبب في هذا ؟ إبنته شيحا !!يا للفضيحة !!
زعق رزق الغاضب في رجاله ..
- إجمعوا كل ما تجدوه من خشب وحطب ، وأقبضوا علي شيحا فسوف نحرقها الأن .. هيا ..وضرب هذا لتردده ، وسب ذاك لأنه أعترض ، ودفع ذلك الذي حاول أن يتشفع لها .. فمضى الرجال مجبرين يجمعون الأحطاب ، بينما أندفع وهو في سورة من غضبه ،، الي حيث النساء وجر شيحا من ضفائرها ، وهو يضربها بكل قسوة .. بينما هي لا تتكلم ، ولا تتألم .. وغنما تنظر اليه مباشرة في عينيه ، نظره تفتت الأكباد .. وكأنها تساله عن سر مايفعله الأباد بالأولاد ؟!.
كانت النسوة تبكي وتصرخ .. وكان الرجال صامتين في حزن وغضب بينما رزق يكوم الأحطاب حول إبنته التي ربطها الي عمود من الخشب !
وصل الخبر الي المير حازم بني الزحلان وابنه سرحان ال>ي اسرع رغم جراحه ليمنع رزف ، عن فعلته الشنعاء
وأمره أن يحل وثاق شيحا وهو يقول :
- لا تتهور يارزق ما هكذا تعالج هذه الأمور ، لا أحد يحرق إبنته لآنها أنقذت حياته ..
صاح رزق في غضب :
- لقد خانتنا وفضحتنا .. وظاهرت عدونا علينا
قال سرحان :
- صرخت به لتمنعه من قتلك ، تعالي لنبحث الأمر معا علي مهل ولا تترك يعميك عن الحقائق ...
انتبه رزق في غضب :
أيه حقائق ؟!.
- وهل هناك حقيقة أشد من أبوتك يارجل ؟! حقيقة الدم يارزق .. لا تجادل في الحق بالباطل .. إنها إبنتك رغم كل شئ !
قال رزق :
- لابد من محاكمتها لأنها خانتنا .. وتواطأت مع عدونا بركات ، >لك العبد الذي لا يستحق سوى الموت ...
دخل الأثنان الي الخيمة .. وأمر سرحان بعض الرجال أن يحضروا شيحا .. وكان كبار بني هلال كلهم مجتمعين حول الأمير حازم الذي كان الي جانبه القاضي بدير .. وأخذ رزق يوجه الأهتمام لابنته التي وقفت مرفوعة الرأس تنظر بقوة في عيونهم مباشرة فتجعلهم يخفضون النظر خجلا كالمذنبين ..
سألها القاضي :
- لماذا فعلت ذلك يا سيحا ؟!
قالت في كبرياء :
- وماذا فعلت ياقاضي هل من جريمة أن أنقذ أبي من الموت .. وأنقذ شرفه ..؟..
صاح رزق بها غاضبا :
- لقد صغرتني ! ولوثت شرفي وجعلت هذا العبد يعفو عني ..فصرت صنيع معروفه
قال سرحان
- صمتا يارزق سيأتي وقتك لتتكلم والتفت الي شيحا وقال :
أنا أسألك يا أبنتي عن صيحتك الأول ؟ ما الذي بينك وبين بركات لكي تحذريه من ضربة كان يمكن أن توفر علينا كل ها القتال ؟!.
هزت شيحا رأسها في غضب وقالت في سخرية :
- هل كنت تريد أن يقتل أبي غدرا .. ليسقط في نظر الجميع ، الغدر يا أمير من شيم الأنذال ، ورزق الدريدي ليس نذلا يا امير سرحان !.
سكت سرحان خجلا بينما طأطأ رزق رأسه وارتبك الحضور ، فلم يستطيع الأمير حازم أن ينطق بكلمة واحدة .. بينما فأفأ القاضي ، وقبل أن بيلع ريقه ، أسرعت شيحا تقول :
- لو أن أعين كم تري ، وقلوب كم تحس ، لرأيتم ماجري أمامكم وفهمتوه ها هو بركات ابن الملك الزحلان .. أسمر اللون رغم أن أخويه منعم ونعيم أبيضان يطرد الزحلان أم إبنه ؟ مثلما حرضتم أبي أن يفعل حين ولدت أمي له بركات أخي . إنني أتخيله كبيرا ، في مثل عمر بركات هذا .. وربما أقوي وأشجع منه ، لا يا سادة . أنا لم أكن أخنكم .. لقد خنتم أنفسكم من زمن . أنا أنقذت أبي . نعم .. ولكني أنقذت شرفه أيضا فهو ليس بالغادر الذي يقتل خصمه غيلة .. فالغدر من صفات الأنذال وحدهم يابني هلال ..
قالت هذا وأستدرت خارجة ، ولم يجرؤ أحد علي إعتراض طريقها .. فمضت مرفوعة الرأس وعند الباب توقفت والتفتت قائلة:
- انا في إنتظار حكمك يا أبي .. وتأكد أنك سوف تجدني مطيعة لك علي الدوام .. لكن أعلم أن الجرح الذي أبكاني صغيرة ، يوم طردت أمي وأخي ، مازال ينزف من قلبي دما بدلا من الدموع .. ولكن ما>ا نفعل ..؟! هل للماضي رجوع ؟..
خيم علي القوم صمت رهيب . ولم يجرؤ أحد منهم علي قطع سكونه حتي قال الأمير حازم :
- ليذهب رسول الأن الي مكة ليسأل الشريف قرضاب عن أخبار إبنته خضرا وإبنها ، ثم صاح : يا مرزوق ......
اسرع إليه عبد خفيف الحركة كالعصفور :
- السمع والطاعة ياسيدي ..
همس له الأمير :
- طر الليلة الي مكه .. خذ ما تحتاج من هجن سريعة .. ولتكن هنا الصباح .. وعليك ان تحتال كي تتقصي لنا أخبار الخضرا .. هيا .. لاتضيع دقيقة .. لا شئ الأن أهم من الحقيقة .. أما أنت يارزق فابق عندي الليلة .. لا تزد الأمور سوءا .. لا أريدك أن تريد الي شيحا أفضل فتيات القبيلة ، فهي لم تفعل سوي ما أملته عليها أخلاقها النبيله ..!
من أبوك يا بركات
عاد مرزوق من مكة بالحقيقة ، التي تقول أن قرضاب الشريف لم يري ابنته خضرا ولا إبنها الذي ولدته من> خمسة عشر عاما ، فأزداد بنو هلال حيرة .. هنا وصاح رزق :
- أحضروا الأمير قايد .
وكان الأمير قايد قد أعتزل بني هلال وعاش في أحد الكهوف بعيدا يرعي بعض عنزات يعيش علي لبنها ، منذ عاد من مهمته التي كلفه بها الأمير رزق ، يوم أمره أن يوصل خضرا وابنها الي ابيها في مكه !..
وفي البداية رفض قايد أن يأتي الي هؤلاء الذين أصبحوا لايقيمون وزنا لصلة الدم ولا يرعون الحرمات .. لولا أن عرف ان الأمير خطير ويتعلق ب بركات وشيحا ، فعاد وأخبرهم بالقصة ، وكيف أستجاب لما طلبته خضرا التي خافت ان تعود الي أبيها مطلقة ومتهمة ... فطلبت منه أن يتركها للوحوش والضواري وسوف ينجيها الله لبرءتها .. فأشفق عليها .. واخذها بنفسه الي الملك الزحلان ، وقص عليه حكايتها .. فأكرمها واتخذ من إبنها ابنا ل .
قال الأمير حازم في دهشة:
- هل تعني أن بركات هذا ... هو بركات ذلك ؟! هل تعني أن بركات ابن الزحلان هو نفسه بركان ابن رزق الدريدي ؟ يا للعجب ....
قال سرحان وهو خجلان :
- إذا كانت شيحا تستجيب لنداء قلبها ، نداء الدم في عروقها ..
إنتفض رزق وقد فاضت مشاعره حتي البكاء ..
- أنا لا أكاد أصدق ، لا .. كل هذا هراء .. وكذب وإفتراء .. هل يعني ذلك إنني كنت سأقتل أبي ...؟ وكاد هو أن يقتلني؟ وماذا افعل الأن عندما يطلبني الأن للقتال .. هل ساخذل بني هلال .. أم أقتل إبني يارجال ؟!
هز الأمير رأسه في حيرة وقال :
- الحق معك يا رزق الأمر صعب .. ولكن عندي لك فكرة ستحسم الموقف تماما .. إسمع . ستخرج اليه .. وعندما تلتقيان .. ما عليك إلا تقول له ...
ولم يسمع أحد ماقاله بسبب صياح بركات الذي ظهر يصول ويجول فوق فرسه بالقرب منهم ، متحديا أن يخرج إليه أحدهم ؟
- يا بني هلال .. هل أنقرض فيكم الرجال .. أخرج يارزق لتمحو عار الأمس ، ولا تتجبر علي النساء والصبايا هيا .. ولا تطمع بسبب الرزايا في كرم أكثر من ذلك . لقد أبقيت علي حياتك بالأمس إكراما لتلك الحسناء الهلالية .. لكن اليوم أمر أخر .. هيا ..
إندفع نحو رزق كالسهم ممتطيا حصانه بعد ان أنهي حديثه مع الأمير حازم .. وأخذ كل منهما يذور حول الآخر في تحد .. وحين أندفع بركات نحو رزق أوقفه هذا بغشاره من يده وقال :
- إرجع يافتي وإرسل من يقاتل الرجال .. فانا لن أقاتل ولدا .. لا يعرف من هو أبوه !!
صدمت الكلمات بركات لوهلة ، ثم أستعاد نفسه فصاح عضبا :
- ألم تعد تعرفني يارزق ؟! ألم تعرف ابن الملك الزحلان الذي وهبك الحياة بالأمس ..
قهقه رزق بصوت عال .. وقال متماديا في السخرية :
- ابن من ؟.. لا ايها الغر الأحمق الذي لا يعرف نسبه .. لقد ضللوك .. إنك لا تعرف من هم أبوك .. إ>هب وإسال أمك خضرا فقد تكون لديها بقية من شجاعة لتخبرك بحقيقة أمرك ..
- هيا .. فإ>ا عرفت وتأكدت ، عد إلينا وسوف يكون سيفي في شرف إنتظارك .. هيا .. ولوي رزق عنك فرسه مثلما أتفق معه الأمير حازم تاركا بركات يتخبط في الحيرة .. بينما أرتفعت ضحكات ساخره وصيحات مستهزأهمن بين صفوف بني هلال تحاصره .. وتسود الدنيا في عينيه .. وأخ> يسأل نفسه :
- أهذا صحيح ؟ .. إذن من أكون ؟.. إذا كان الزحلان قد رباني فقط ، فمن أين جاءت بي خضرا ؟ هي لن تخبرني طبعا بالحقيقة .. إذا كانت قد اخفتها عني كل هذه السنين ، ... لا.... هي لن تفعل !! ولكن يجب أن أجد طريقه ، كي تعترف أمي بالحقيقة !!
قال الراوي
عاد بركات الي معسكر بني الزحلان وهو كسير القلب سقيم الوجدان ..
وهو مصمم علي معرفة الحقيقة ، فاسر في نفسه فكرة دقيقة .. وهو يدور حول نفسه كالنمر الجريح في خيمته .. لا يجرؤ أحد ممن معه علي مقاطعة صمته أو حركته !..
وفجأة ، أسرع الي أحد الأركان ، حيث الخرج الكبير الذي يحفظ فيه مواد الكيميا فخلط في كأس صغير .. بضعة أشياء من بضعة قوارير .. ما أن شربها حتي سقط جثة هامدة فوق السرير!!
وفوجئ الحاضرون بما يحدث ..
فاسرعوا فزعين إليه فوجدوه فاقد النفس متوقف فتعالي الصياح من كل جانب ، لقد قتل بركات نفسه دون سلاح .. وسري الخبر سريان النار في الهشيم .. حتي وصل الي خضرا فانفتحت أمامها أبواب الجحيم .. وشهقت شهقة عميقة وأغمضت عينيها ثم سقطت مغشيا عليها !
ولما أفاقت ، قصوا عليها ما حدث .. منذ عاد بركا من لقائه ب رزق كسير الجناح مهزوما مشوش الوجدان لأن رزق اخبره أمام الجميع إنه ليس ابن الزحلان .. وإنه لن يقاتل ولدا لا يعرف من هو أبوه .. فعزت عليه نفسه ، وتناول سائلا سلبه الحياه .. لأنه لا يعرف اباه ..
صاحت خضرا وهي تضرب صدرها بقبضتها :
- اهمذا يارزق ؟ .. هكذا ؟ .. تقتل إبنك يا رزق
واحتضنت جسد إبنها وهي تنوح :
نعم ياحبيب القلب يا بركات رزق هو أبوك .. رفضك صغيرا وطلقني وطردني .. وها هو يحرمني منك كبيرا فأثكلني .. قم يا بركات ، رزق هو أبوك يا بني ..
ووسط دهشة الجميع ..
فتح بركات عينيه وقال :
- لاتبكي يا أمي فإبنك حي ما يزال !!
شهق الحضور وكاد أن يغشي علي خضرا مرة أخري .. لكن بركات أسرع اليها .. وتلقاها بين >راعيه .. وأخبرها بسر الشراب الذي شربه لتظن انه سقط ميتا .. والذي صنعه بيده منوما مؤقتا !
وقال :
- الأن تتضح الحقيقة يا أمي ولكنها لم تمنع القتال ...
صاحت خضرا ..
- لا تقتل أباك يا بركات !!
ربت بركات علي كتفيها وهو يقبل يديها وقال ...
- إطمئني يا أبنة الشريف .. لن أٌقتله ولكن لابد أن أجعله يدفع ثمن جرائمه في حقك وحق أبي الملك الزحلان .. لابد ان يعترف ب>نبه ... وأن يخرج الشرور التي بقلبه .. ولن أكون بركات إن لم ارد لك كرامتك يا أشرف الأمهات ... أما أنا .. فسأظل كما انا .. إبنا للملك الذي رباني .. ولن أكون ملكا لمن رماني وللمجهول ألقاني ...
سوف أحضره حيا غليك وإلي ابي .. ليعتذر .. إليكما ولن أقتله من أجل خاطر أختي شيحا ذات الصوت الجميل الذي نجاني ..!

حكاية أبو زيد الهلالي 3 سيوف الأقارب

لا تقتل أباك يا ولدى!
اندفع بركات غاضبا يريد الأنتقام ، بعد أن عرف السر الذي أخفته أمه طوال هذه السنين . قالت خضرة الشريفة :
- يا ولدي ..... لا تترك الغضب يعمي عينيك عن الحقيقة ، ولا تنسي أن رزق هو والدك الحقيقي !
إلتفت بركات ناحيتها في عصبية ، مستنكرا قولها .. وهو يحاول إخفاء غضبه :
- والدي يا أمي العزيزة هو الملك الزحلان ن هو الذي رباني وآواك وآواني ... بعد أن رماكرزق ورماني لذئاب الصحراء ، هنا في هذا البيت كبرت برعاية الزحلان وحبه ، وتأدبت بنصائحه وعرفت عنه الصواب والخطأ ... في حجره لعبت وعلي صدره حبوت ونمت صغيرا ... وعرفت الحنان والهناء والأمان طفلا ... والمرح والفرح صبيا ، والشجاعة والفروسية شابا ....
لا أعرف أبا لي سواه .
ملأ الحزن عيون خضرا بالدموع وقالت وهي تربت علي كتف إبنها ، الذي يرتجف من الإنفعال:
- يا بني كل ما قلته صحيح . ولكنك لا تستطيع مهما أنكرت ، أن تتخلص من الدم الذي يجري في عروقك .. يا ولدي ... هذا قدرك أبوك هو الأمير رزق الهلالي كما أنني خضرا بنت الشريف أمك .. وأنت مهما حدث هلالي من بني هلال .. وإليهم تنتمي . صاح بركات محجتا :
- كيف تقولين هذا يا أمي ... بنو هلال هم الذين اهانوك وطردوك الي الصحراء بلا رحمة أو شفقة ..
نظرت خضرا في عينيه محاولة الأبتسام ، وقالت في محاولة أخيرة لجعله يتراجع
- الأن ... عرفوا خطأهم ..
- جريمتهم !
- أوافقك .. عرفوا جريمتهم الأن ...وأستطيع أن أؤكد لك أنهم تعمدوا أن يسالوك عن أبيك كي تعرف الحقيقة التي يريدون الإعتراف بها .. والإعتذار .. طالبين السماح .. والمغفرة ...
وضع بركات كتفه فوق يد أمه التي كانت ما تزال فوق كتفه تهدئ من عصبيته :
- الجريمة لها عقاب .. ولن أسامحهم علي ما فعلوه بك .. حتي ولو سامحتهم عما حدث لي .. والآن ومهما كانت نواياهم فقد هاجموا أرض أبي .. ويريدون النجاه بجريمتهم لي .. والآن ومهما كانت نواياهم فقد هاجموا أرض أبي ومحاولتهم قتله ... ولكني لم أتركهم يفلتون أولئك الذين طردوك وطردوني رضيعا ضعيفا الي الفلاة والوحوش ..
تريدين أن يجازوا علي قسوتهم بالرحمة ؟ وعلي نكرانهم صلة الدم بالمغفرة ..؟ . لا ياامي إنها خدعة للنجاة بأفعالهم وعذرهم...
ولما وجدت خضرا إصراره علي الخروج محاولا الإفلات من يدها .. نظرت في عينيه بعد أن جذبته إليها وقالت في إصرار:
- لن أتركك تخرج إليهم إلا إذا وعدتني ألا تؤذي والدك يا ولدي .... إنها ستكون جريمة بشعة وعار لا يفارقك أبد الدهر إن قتلته ... ستكون أبشع واشد هولا من فعلته القديمة القاسية .. لن تفعل .. عدني .. وإلا فلن تخرج للميدان إلا علي جثتي ...
أراد بركات أن يرد متجنبا سهام نظراتها ، لكنها لم تعطه الفرصة ، وظلت تسلطها عليه وتحملق مباشرة في عينيه المبللتين بالدموع .
- عدني يا بركات ... هيا ... عدني ! مال برأسه مستسلما متجنبا نظراتها المتحدية وقال:
- أعدك يا أمي .. أعدك .. ولكني ساحضره أسيرا مقيدا ليطلب السماح منك .. ومن أبي الملك الزحلان الذي مازال جرحه يهدد حياته الغالية ... وللملك أن يفعل به ما يشاء ... ولا تحاولي منعي من ذلك فأنا مصمم علي ان يفكر عن ذنبه نحوك.... وعدوانه علي الملك الزحلان الذي هو رغم كل شئ ... أبئ ...
مدت خضرة ذراعيها واحتضنته في حنان وهي تقول:
- مهما حدث يابني ... ومهما يمكن أن يحدث فلا تنسي أن عرقك تجري دماء الأمير رزق وإنك هلالي يابركات ...
وأطلقت سراحه فانفلت كالسهم خارجا من الخيمة ليقفز فوق فرسه صارخا بأصحابه أن هيا الي القتال يا رجال !!
قتال ... الاحبة !!
- غندفع بركات علي حصانة شاهرا الحسام ... وهو يصيح صيحات الحرب وينشد ألحان الإنتقام ...
يا رزق لا تهرب قد جاءك الفرسان
أخرج الي الحرب هيا الي الميدان
بركات جاء اليك يجزيك صنع يديك
نار علي عينيك تكشف لنا ما كان